فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (32):

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الْإِنْكَاحُ هُنَا مَعْنَاهُ: التَّزْوِيجُ، وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى أَيْ: زَوِّجُوهُمْ، وَالْأَيَامَى: جَمْعُ أَيِّمٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالْأَيِّمُ: هُوَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَيِّمٌ، وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرَارٍ فِي شِعْرِهِ: الْأَيِّمَ الْأُنْثَى بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ فِي حَالَتِهَا الرَّاهِنَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
يُقِرُّ بِعَيْنِي أَنْ أُنَبَّأَ أَنَّهَا ** وَإِنْ لَمْ أَنَلْهَا أَيِّمٌ لَمْ تَزَوَّجِ

فَقَوْلُهُ: «لَمْ تَزَوَّجِ» تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَنَّهَا أَيِّمٌ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَيِّمِ عَلَى الذَّكَرِ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ:
لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ ** أَيِّمٌ مِنْهُمْ وَنَاكِحْ

وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأُنْثَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُحِبُّ الْأَيَامَى إِذْ بُثَيْنَةُ أَيِّمُ ** وَأَحْبَبْتُ لَمَّا أَنْ غَنِيتُ الْغَوَانِيَا

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: آمَ الرَّجُلُ يَئِيمُ، وَآمَتِ الْمَرْأَةُ تَئِيمُ، إِذَا صَارَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا أَيِّمًا، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: تَأَيَّمَ إِذَا كَانَ أَيِّمًا.
وَمِثَالُهُ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحِبِ ** رَجَاءَ بِسَلْمَى أَنْ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ** وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُ أَتَأَيَّمُ

وَمِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا، قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ:
كُلُّ امْرِئٍ سَتَئِيمُ مِنْهُ ** الْعُرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
نَجَوْتَ بِقَوْفِ نَفْسِكَ غَيْرَ أَنِّي ** إِخَالُ بِأَنْ سَيَيْتِمُ أَوْ تَئِيمُ

يَعْنِي: يَيْتِمُ ابْنُكَ وَتَئِيمُ امْرَأَتُكَ.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْكُمْ أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَيْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ أَنَّ الْأَيَامَى مِنْ غَيْرِكُمْ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ لَيْسُوا كَذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ الَّذِي فُهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَيَامَى الْكُفَّارِ الذُّكُورِ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [2/ 221]، وَقَوْلُهُ فِي أَيَامَاهُمُ الْإِنَاثِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [2/ 221]، وَقَوْلُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [60/ 10].
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الْمُوَضِّحَةِ لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ لِلْكَافِرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرَةِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَاتِ خَصَّصَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ، فَأَبَانَتْ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ خَاصَّةً؛ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [5/ 5]، فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَاطِفًا عَلَى مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ لِلْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّزْوِيجَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، إِلَّا صُورَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ تُزَوُّجُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِالْمَرْأَةِ الْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنِيَّةٌ، كَمَا رَأَيْتَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى مِنَ الْمَمْلُوكِينَ الصَّالِحِينَ، وَالْإِمَاءِ الْمَمْلُوكَاتِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبُ؛ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَالِيَةَ مِنْ زَوْجٍ إِذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ وَرَضِيَتْهُ، وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهَا تَزْوِيجُهَا إِيَّاهُ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، مِنْ أَنَّ السَّيِّدَ لَهُ مَنْعُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ مِنَ التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا غَيْرُ صَوَابٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِمَائِكُمْ بَيَّنَتْ آيَةُ النِّسَاءِ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُزَوَّجُ لِلْحُرِّ إِلَّا بِالشُّرُوطِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ، فَآيَةُ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةُ مُخَصَّصَةٌ بِعُمُومِ آيَةِ النُّورِ هَذِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَاءِ، وَآيَةُ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [4/ 25]، فَدَلَّتْ آيَةُ النِّسَاءِ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَمْلُوكَةَ الْمُؤْمِنَةَ، إِلَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ تَزْوِيجَ حُرَّةٍ لِعَدَمِ الطَّوْلِ عِنْدَهُ، وَقَدْ خَافَ الزِّنَى فَلَهُ حِينَئِذٍ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ بِإِذْنِ أَهْلِهَا الْمَالِكِينَ لَهَا، وَيَلْزَمُهُ دَفْعُ مَهْرِهَا، وَهِيَ مُؤْمِنَةٌ عَفِيفَةٌ لَيْسَتْ مِنَ الزَّانِيَاتِ وَلَا مُتَّخِذَاتِ الْأَخْدَانِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَصَبْرُهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا خَيْرٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ تَزْوِيجِهَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاضْطِرَارِ خَيْرًا لَهُ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ مَنْعِ تَزْوِيجِ الْحُرِّ الْأَمَةَ، إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [4/ 25]، وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [4/ 25]، أَيِ: الزِّنَى إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا مُطْلَقًا، إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ النُّورِ هَذِهِ: وَإِمَائِكُمْ خَصَّصَتْ عُمُومَهُ آيَةُ النِّسَاءِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلَّةَ مَنْعِ تَزْوِيجِ الْحُرِّ الْأُمَّةَ، أَنَّهَا إِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، فَيَلْزَمُهُ أَلَّا يَتَسَبَّبَ فِي رِقِّ أَوْلَادِهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فِيهِ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُتَزَوِّجِ الْفَقِيرِ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَالْعَبِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُقَرَاءَ بِالْيُسْرِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُسْرِ، وَأَنْجَزَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [65/ 7]، أَيْ: ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [65/ 7]، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْهُ- جَلَّ وَعَلَا- وَعَدَ بِهِ مَنِ اتَّقَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الْآيَةَ [65/ 2- 3]، وَوَعَدَ بِالرِّزْقِ أَيْضًا مَنْ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَيَصْطَبِرُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [20/ 132]، وَقَدْ وَعَدَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالرِّزْقِ الْكَثِيرِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [71/ 10- 12]، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ هُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الْآيَةَ [11/ 52]، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَسُلَّمَ-: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [11/ 3].
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلرِّزْقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [7/ 96]، وَمِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَمِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ النَّبَاتُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الْآيَةَ [5/ 66]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [16/ 97]، أَيْ: فِي الدُّنْيَا؛ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فِي جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [16/ 97]، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- وَعَدَ بِالْغِنَى عِنْدَ التَّزْوِيجِ وَعِنْدَ الطَّلَاقِ.
أَمَّا التَّزْوِيجُ، فَفِي قَوْلِهِ هُنَا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} الْآيَةَ [4/ 130]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِالْغِنَى، هُوَ الَّذِي يُرِيدُ بِتَزْوِيجِهِ الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ؛ كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» الْحَدِيثَ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالتَّزْوِيجِ طَاعَةَ اللَّهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ، فَالْوَعْدُ بِالْغِنَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ رَأَيْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعْدِ اللَّهِ بِالرِّزْقِ مَنْ أَطَاعَهُ سُبْحَانَهُ- جَلَّ وَعَلَا- مَا أَكْرَمَهُ، فَإِنَّهُ يَجْزِي بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا قَالَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ مَالَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الْعَبِيدِ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَا يُطْلَقُ الْغِنَى إِلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ الَّذِي بِهِ صَارَ غَنِيًّا، وَوَجْهُهُ قَوِيٌّ وَلَا يُنَافِي أَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ الَّذِي مَلَكَ لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
هَذَا الِاسْتِعْفَافُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [24/ 30]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [17/ 32]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ قِيلَ: غَفُورٌ لَهُنَّ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لَهُنَّ وَلَهُمْ.
وَأَظْهَرُهَا أَنَّ الْمَعْنَى غَفُورٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا أُكْرِهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ لِعُذْرِهِ بِالْإِكْرَاهِ؛ كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الْآيَةَ [16/ 106]، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا-.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّا لَا نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ اسْتِشْهَادًا بِهَا لِقِرَاءَةٍ سَبْعِيَّةٍ كَمَا هُنَا، فَزِيَادَةُ لَفْظَةِ لَهُنَّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ذَكَرْنَا اسْتِشْهَادٌ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لِبَيَانٍ بِقِرَاءَةٍ غَيْرِ شَاذَّةٍ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، هُوَ الْمَعْذُورُ بِالْإِكْرَاهِ دُونَ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي فِعْلِهِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ بَيَانُ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [16/ 106].
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيقِ الْمَغْفِرَةِ بِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَى، بِخِلَافِ الْمُكْرِهِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ آثِمَةٍ.
قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ دُونَ مَا اعْتَبَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ إِكْرَاهٍ بِقَتْلٍ، أَوْ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، أَوْ ذَهَابُ الْعُضْوِ مِنْ ضَرْبٍ عَنِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى يَسْلَمَ مِنَ الْإِثْمِ، وَرُبَّمَا قَصُرَتْ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تَعَذَّرَ فِيهِ فَتَكُونُ آثِمَةً، انْتَهَى مِنْهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْإِكْرَاهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غُفْرَانٌ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعَبْدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ذَكَرَ اللَّهُ- جَلَا وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، وَيَدْخُلُ فِيهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا الْآيَاتُ الَّتِي بُيِّنَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْضَحَتْ فِي مَعَانِي الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، وَدَلِيلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [24/ 1] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَاتِ الْمُصَرَّحَ بِنُزُولِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ الْآيَةَ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهَا إِلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أَيْ: تَتَّعِظُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْمَوَاعِظِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهَا، أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّاسُ، وَيَتَّعِظُوا بِمَا فِيهَا، وَيَدُلَّ لِذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [38/ 29] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [7/ 1- 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، أَيْ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَمَثَلًا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ: قِصَّةً غَرِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَرْيَمَ فِي بَرَاءَتِهِمَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَيْ: قِصَّةً عَجِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَرْيَمَ يَعْنِي قِصَّةَ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ ذِكْرَهُ غَيْرُهُمَا.
وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَثَلًا، أَيْ: قِصَّةً عَجِيبَةً غَرِيبَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ الْعَجِيبَةُ مِنْ أَمْثَالِ: {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}، أَيْ: مِنْ جِنْسِ قِصَصِهِمُ الْعَجِيبَةِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فَالْمُرَادُ بِالْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي أَنْزَلَ إِلَيْنَا، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَمَثَلًا هِيَ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مِمَّا رَمَاهَا بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [24/ 11] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} الْآيَةَ [24/ 26]، فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ، وَأَنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا فِي كِتَابِهِ مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ، وَعَلَى هَذَا:
فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِبَعْضِ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَمْيِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهَا سُوءًا تَعْنِي الْفَاحِشَةَ قَالَتْ: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [12/ 25] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [12/ 35]؛ لِأَنَّهُمْ سَجَنُوهُ بِضْعَ سِنِينَ، بِدَعْوَى أَنَّهُ كَانَ أَرَادَ الْفَاحِشَةَ مِنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْفِرْيَةِ الَّتِي افْتُرِيَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ النِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ نَفْسِهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [12/ 50- 51]، وَقَالَ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهَا مَعَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} الْآيَةَ [12/ 32].
فَقِصَّةُ يُوسُفَ هَذِهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا؛ لِأَنَّهُ رَمَى بِإِرَادَةِ الْفَاحِشَةِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمَثَلُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، شَبِيهٌ بِقِصَّةِ يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَعَائِشَةُ كِلَاهُمَا رُمِيَ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَكِلَاهُمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَرَاءَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَزَلَ بِهَا هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَإِنْ كَانَتْ بَرَاءَةُ يُوسُفَ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِإِقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالنِّسْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ مِنْ أَهْلِهَا، إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} الْآيَةَ [12/ 26- 28].
وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِبَعْضِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا مَا ذَكرَه تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مَرْيَمَ مِنْ أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِالْفَاحِشَةِ، لَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [4/ 156] يَعْنِي فَاحِشَةَ الزِّنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [19/ 27] يَعْنُونَ الْفَاحِشَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [19/ 29- 33] فَكَلَامُ عِيسَى، وَهُوَ رَضِيعٌ بِبَرَاءَتِهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مَعَ بَيَانِ سَبَبِ حَمْلِهَا بِعِيسَى، مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [19/ 16- 22] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهِ فِيهَا بَرَاءَتَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [21/ 91] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّحْرِيمِ: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [66/ 12] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَذْفِ يُوسُفَ وَبَرَاءَتِهِ وَقَذْفِ مَرْيَمَ وَبَرَاءَتِهَا مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا فَهِيَ مَا يُبَيِّنُ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.
وَالْآيَاتُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَذْفِ عَائِشَةَ وَبَرَاءَتِهَا بَيَّنَتِ الْمَثَلَ الَّذِي أُنْزِلُ إِلَيْنَا، وَكَوْنُهُ مِنْ نَوْعِ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ عَائِشَةَ، وَمَرْيَمَ، وَيُوسُفَ رُمِيَ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ بَرَّأَهُ اللَّهُ، وَقِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَجِيبَةٌ، وَلِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَ{مَوْعِظَةً} مَا وُعِظَ بِهِ فِي الْآيَاتِ وَالْمَثَلِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [24/ 2]، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [24/ 12]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [24/ 16]، {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [24/ 17]، اهـ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ خُصُوصِ الْمَوْعِظَةِ بِالْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [35/ 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [79/ 45] فَخَصَّ الْإِنْذَارَ بِمَنْ ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [25/ 1] وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [50/ 45] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَشُعْبَةُ بْنُ عَاصِمٍ: مُبَيَّنَاتٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ: فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا، وَأَوْضَحَهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ مَعْرُوفًا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مُبَيِّنَاتٍ: اسْمُ فَاعِلِ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّيَةِ وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُبَيِّنَاتٍ الْأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مُبَيِّنَاتٍ: وَصْفٌ مِنْ بَيَّنَ اللَّازِمَةِ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى آيَاتٌ مُبَيِّنَاتٌ أَيْ بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتٌ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا} [24/ 1]، وَذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَمَثَّلُوا لِبَيَّنَ اللَّازِمَةِ بِالْمَثَلِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ بَيَّنَ مُضَعَّفًا، وَأَبَانَ كِلْتَاهُمَا تَأْتِي مُتَعَدِّيَةً لِلْمَفْعُولِ وَلَازِمَةً، فَتَعَدِّي بَيَّنَ لِلْمَفْعُولِ مَشْهُورٌ وَاضِحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} [3/ 118] وَتَعَدِّي أَبَانَ لِلْمَفْعُولِ مَشْهُودٌ وَاضِحٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِمْ: أَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، أَيْ: بَيَّنَهَا لَهُ، وَأَوْضَحَهَا، وَأَمَّا وُرُودُ بَيَّنَ لَازِمَةً بِمَعْنَى تَبَيَّنَ وَوَضُحَ فَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ: قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، أَيْ: تَبَيَّنَ وَظَهَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
وُجُوهُ مُجَاشِعٍ طُلِيَتْ بِلُؤْمٍ ** يُبَيِّنُ فِي الْمُقَلَّدِ وَالْعِذَارِ

فَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ بِكَسْرِ الْيَاءِ بِمَعْنَى: يَظْهَرُ، وَيَتَّضِحُ وَقَوْلُ جَرِيرٍ أَيْضًا:
رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسْتَقَامُوا ** وَبَيَّنَتِ الْمِرَاضَ مِنَ الصِّحَاحِ.

وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذُرَيْحٍ:
وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى ** شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الْأَشَاجِعُ

عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بِرَفْعِ شُحُوبٌ.
وَالْمَعْنَى: لِلْحُبِّ عَلَامَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْكَسْرِ، أَيْ: تَظْهَرُ وَتَتَّضِحُ بِالْفَتَى، وَهِيَ شُحُوبٌ إِلَخْ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ هَذَا الْبَيْتَ، فَقَالَ: شُحُوبًا بِالنَّصْبِ، وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ شُحُوبًا عَلَى هَذَا مَفْعُولُ تُبَيِّنُ فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَمَّا وُرُودُ أَبَانَ لَازِمَةً بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ، فَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ** أَبَانَ الْمُقْرَفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ

أَيْ: ظَهَرَتِ الْمُقْرَفَاتُ وَتَبَيَّنَتْ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ** لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودُ

أَيْ: لَظَهَرَ وَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودٌ، أَيْ: وَرَمٌ، وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ** عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ

فَقَوْلُهُ: مُبِينٌ وَصْفٌ مِنْ أَبَانَتِ اللَّازِمَةِ: أَيْ عِتْقٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، أَيْ كَرَمٌ ظَاهِرٌ.

.تفسير الآية رقم (36):

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ}.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ جَمِيعُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ رِجَالٌ وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَشُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ قَدْ دَلَّتِ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَهُ: رِجَالٌ فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا، قِيلَ: وَمَنْ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا؟ قَالَ رِجَالٌ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا رِجَالٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مَا لَفْظُهُ، وَقَدِ الْتَزَمْنَا أَنَّا لَا نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ سَبْعِيَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِرَاءَةً أُخْرَى فِي الْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ نَفْسِهَا، أَوْ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ يُبَيِّنُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ فِيهَا مَعْنَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ: يُسَبِّحُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَاعِلُهُ رِجَالٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِحَذْفِ الْفَاعِلِ هُوَ رِجَالٌ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ حُذِفَ فِيهَا الْفَاعِلُ لِ: {يُسَبِّحُ}، وَحُذِفَ أَيْضًا الْفِعْلُ الرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ رِجَالٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا كَمِثْلِ زَيْدٍ فِي جَوَابِ مَنْ قَرَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ أَوْ غَيْرَهُ:
لِيُبْكَ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ فَقَوْلُهُ: لِيُبْكَ يَزِيدُ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَبْكِيهِ؟ فَقَالَ: يَبْكِيهِ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ إِلَخْ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ هُنَا كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَقَوْلُهُ: اللَّهُ فَاعِلُ يُوحَى الْمَحْذُوفَةِ، وَوَصْفُهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، بِكَوْنِهِمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى سَبِيلِ مَدْحِهِمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا يَنْبَغِي التَّسَاهُلُ فِيهَا بِحَالٍ; لِأَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الثَّنَاءِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْإِخْلَالِ بِهَا نَهْيًا جَازِمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [63/ 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} الْآيَةَ [62/ 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ: يُسَبَّحُ سُنَّ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْآصَالِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُسَبِّحُ بِالْكَسْرِ، فَلَا يَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْآصَالِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ يُسَبِّحُ رِجَالٌ، وَالْوَقْفُ دُونَ الْفَاعِلِ لَا يَنْبَغِي كَمَا لَا يَخْفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُؤَنَّثَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْبُيُوتِ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْبُيُوتَ الْمَذْكُورَةَ، هِيَ الْمَسَاجِدُ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ مَنْ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ يُسَبِّحْنَ لَهُ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: رِجَالٌ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ لَفْظِ الرِّجَالِ، مَفْهُومُ لَقَبٍ بِالنَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِ لَفْظِهِ، وَأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنَّ مَفْهُومَ الرِّجَالِ هُنَا مُعْتَبَرٌ، وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظِ الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِهِ اسْمَ جِنْسٍ جَامِدٍ وَهُوَ لَقَبٌ بِلَا نِزَاعٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورَةِ مَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا تُخْشَى مِنْهُمُ الْفِتْنَةُ، وَلَيْسُوا بِعَوْرَةٍ بِخِلَافِ النِّسَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ الذُّكُورَةِ وَصْفٌ صَالِحٌ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ الَّذِي هُوَ التَّسْبِيحُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَالْخُرُوجُ إِلَيْهَا دُونَ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَفْظَ الرِّجَالِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَقَبًا فَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ الذُّكُورَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، يَقْتَضِي اعْتِبَارَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي لَفْظِ رِجَالٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَفْهُومُ صِفَةٍ لَا مَفْهُومَ لَقَبٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الرِّجَالِ مُسْتَلْزِمٌ لِأَوْصَافٍ صَالِحَةٍ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: رِجَالٌ، مَفْهُومُ صِفَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فِي حُكْمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ لَا مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَأَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ هُنَا: رِجَالٌ فِيهِ إِجْمَالٌ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْبَيَانَ الْقُرْآنِيَّ إِذَا كَانَ غَيْرَ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ، فَإِنَّا نُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْمُبَيِّنِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَتْ أَمْثِلَةٌ لِذَلِكَ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ بَيَّنَتْ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رِجَالٌ، فَبَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْمَذْكُورَ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي حُكْمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَأَوْضَحَتْ أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا فِي الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ، وَبَيَّنَتْ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يَجُوزُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِشُرُوطٍ سَيَأْتِي إِيضَاحُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُنَّ إِذَا اسْتَأْذَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فَهُمْ مَأْمُورُونَ شَرْعًا بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الْتِزَامِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ.
أَمَّا أَمْرُ أَزْوَاجِهِنَّ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبُخَارِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا» وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْنَعْهَا» وَقَالَ الْبُخَارِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ سَالِمًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ» قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهُوَ صَحِيحٌ وَعُومِلْنَ مُعَامَلَةَ الذُّكُورِ لِطَلَبِهِنَّ الْخُرُوجَ إِلَى مَجْلِسِ الذُّكُورِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّيْخَيْنِ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَخْرَجَهُ أَيْضًا غَيْرُهُمَا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَزْوَاجَ النِّسَاءِ مَأْمُورُونَ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ، وَمَنْهِيُّونَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَمْرَ الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ لِلْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلنَّدْبِ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَنْعِهِنَّ، قَالُوا: هُوَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ؛
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَانْتَفَى مَعْنَى الِاسْتِئْذَانِ؛ لَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذِنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ أَوِ الرَّدِّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ: فَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ بِأَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ، فَلَا تَتْرُكُهُ لِفَضِيلَةٍ اهـ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ يَسْتَوْجِبُ الْفِتْنَةَ مِمَّا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ لَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْأَمْرِ الصَّرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهَا وَصِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَصِيغَةُ النَّهْيِ كَذَلِكَ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [24/ 63] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذَنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ، وَالرَّدُّ غَيْرَ مُسَلِّمٍ، إِذْ لَا مَانِعَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِذْنَ لِامْرَأَتِهِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، فَإِيجَابُ الْإِذْنِ لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمَنْعِ. وَقَدْ دَلَّ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَلَى إِيجَابِهِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ، فَلَا تَتْرُكُهُ لِلْفَضِيلَةِ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنْ يَرِدَ بِهِ النَّصُّ الصَّرِيحُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّوْجَ بِالْإِذْنِ لَهَا يُلْزِمُهُ ذَلِكَ، وَيُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُعَارَضُ بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ: مِنْ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ قَالَ بِهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ مُسْلّمٍ أَيْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي أَمْرِ الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ ابْنُهُ: لَا نَدَعُهُنَّ يَخْرُجْنَ، غَضِبَ وَشَتَمَهُ وَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى اعْتِقَادِهِ وُجُوبَ امْتِثَالِ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: لَا نَدَعُهُنَّ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَقُّ تَعَدُّدُ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَهُ كُلٌّ مِنْ بِلَالٍ، وَوَاقِدٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَكَوْنُ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَقْبَلَ عَلَى ابْنِهِ بِلَالٍ وَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ، أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: لَنَمْنَعْهُنَّ فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى لُزُومَ الْإِذْنِ لَهُنَّ، وَأَنَّ مَنْعَهُنَّ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ يَرَاهُ جَائِزًا مَا شَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى ابْنَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، وَفِي رِوَايَةٍ فَزَبَرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، فِيهِ تَعْزِيرُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْمَعَارِضِ لَهَا بِرَأْيِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ هَذَا الَّذِي رَأَيْتَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّعْزِيرِ، مُعْتَرِضُونَ عَلَى السُّنَّةِ، مُعَارِضُونَ لَهَا بِرَأْيِهِمْ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُقِرُّ بِأَنَّ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَمُعَارَضَتِهِ لَهَا بِرَأْيِهِ، مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ الَّذِي يَنْصُرُهُ وَيَنْقُلُ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ هُوَ بِعَيْنِهِ قَوْلُ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي صَرَّحَ هُوَ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ، وَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ وَمُعَارَضَةٌ لَهَا بِالرَّأْيِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: فَزَبَرَهُ، أَيْ: نَهَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: فَفِي رِوَايَةِ بِلَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا شَدِيدًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ السَّبَّ الْمَذْكُورَ بِاللَّعْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ زَائِدَةٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: أُفٍّ لَكَ، وَلَهُ عَنِ ابْنِ الْأَعْمَشِ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ، وَمِثْلُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَزَبَرَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فَسَبَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأُخِذَ مِنْ إِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى وَلَدِهِ تَأْدِيبُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُعْتَرِضٌ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَنِ بِالرَّأْيِ كَمَا تَرَى.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَشْنِيعَهُ عَلَى وَلَدَيْهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُنَّ كُنْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبُخَارِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ اهـ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا دَالَّةٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ النِّسَاءِ كُنَّ يَشْهَدْنَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَنْبِيهٌ.
قَدْ عَلِمْنَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا تَقْيِيدَ أَمْرِ الرِّجَالِ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ.
وَقَدْ يَتَبَادَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ إِلَّا فِي خُصُوصِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَيَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ هَذَا بِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَتُحْمَلُ رِوَايَاتُ الْإِطْلَاقِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، فَيَخْتَصُّ الْإِذْنُ الْمَذْكُورُ بِاللَّيْلِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الْأَظْهَرُ عِنْدِي تَقْدِيمُ رِوَايَاتِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُضُورِ النِّسَاءِ الصَّلَاةَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ اللَّيْلِ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا الدَّالِّ عَلَى حُضُورِهِنَّ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ، وَهِيَ صَلَاةُ نَهَارٍ لَا لَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، بِسَبَبِ كَوْنِهِنَّ يَرْجِعْنَ لِبُيُوتِهِنَّ، لَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنَ النَّهَارِ قَطْعًا، لَا مِنَ اللَّيْلِ، وَكَوْنُهُ مِنَ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فَهُوَ:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ شُرُوطٌ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ وَقْتَ خُرُوجِهَا لِلْمَسْجِدِ لَيْسَتْ مُتَلَبِّسَةً بِمَا يَدْعُو إِلَى الْفِتْنَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» مَا نَصُّهُ: هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ الْمَسْجِدَ، وَلَكِنْ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً، وَلَا مُتَزَيِّنَةً، وَلَا ذَاتَ خَلَاخِلَ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَلَا ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ، وَلَا مُخْتَلِطَةً بِالرِّجَالِ، وَلَا شَابَّةً وَنَحْوَهَا، مِمَّنْ يُفْتَنُ بِهَا، وَأَلَّا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَا يُخَافُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَنَحْوُهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: هَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنُّصُوصِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ، وَإِلْحَاقُ بَعْضِهَا لَا يَخْلُو مِنْ مُنَاقَشَةٍ؛ كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِنْ شَاءَ تَعَالَى، أَمَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ، فَهُوَ عَدَمُ التَّطَيُّبِ، فَشَرْطُ جَوَازِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلَا تَطَيَّبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ».
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا».
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدَنَّ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ» اهـ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ، وَهَمَا: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْجَمِيعِ- صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ» اهـ، وَقَوْلُهُ: وَهُنَّ تَفِلَاتٌ، أَيْ: غَيْرُ مُتَطَيِّبَاتٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَتَفِلَاتٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ: تَارِكَاتٌ الطِّيبِ اهـ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ابْتَزَّهَا مِنْ ثِيَابِهَا تَمِيلُ عَلَيْهِ هَوْنَةَ غَيْرِ مِتْفَالِي وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهَا تُحَرِّكُ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِرِيحِ طِيبِهَا.
فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلْحَقُوا بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَصَوْتِ الْخَلْخَالِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَالِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِجَامِعِ أَنَّ الْجَمِيعَ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِذَلِكَ الشَّابَّةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الشَّابَّ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَخَصَّصُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالْعَجَائِزِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّابَّةَ إِذَا خَرَجَتْ مُسْتَتِرَةً غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ أَنَّ لَهَا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، أَمَّا النِّسَاءُ فَصَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِهِ هَذَا، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ اهـ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَلِأَحْمئَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّةِ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ، فَقَالَ «: قَدْ عَلِمْتُ، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ» وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَوَجْهُ كَوْنِ صَلَاتِهَا فِي الْإِخْفَاءِ أَفْضَلُ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ.
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَاصِمٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: ثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، اهـ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ».
وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ تَعْلَمُ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنْ صَلَاتِهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي ثِيَابٍ قَصِيرَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَمُزَاحَمَتُهُنَّ لِلرِّجَالِ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مِنَ النِّسَاءِ مَا رَأَيْنَا، لَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ كَمَا مَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَهَا.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} الْآيَةَ، مُعْتَبَرٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْمَفْهُومَ الْمَذْكُورَ بِالسُّنَّةِ كَمَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ فِي الْمَسَاجِدِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عِظَمِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [79/ 8- 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [14/ 42] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} الْآيَةَ [40/ 18]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} الْآيَةَ [73/ 17- 18]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [76/ 9- 10] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي مَعْنَى تُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ، ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي: أَنَّ تُقَلُّبَ الْقُلُوبِ هُوَ حَرَكَتُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} وَأَنَّ تُقَلَّبَ الْأَبْصَارِ هُوَ زَيْغُوغَتُهَا وَدَوَرَانُهَا بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} الْآيَةَ [33/ 19]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [33/ 10] فَالدَّوَرَانُ وَالزَّيْغُوغَةُ الْمَذْكُورَانِ يُعْلَمُ بِهِمَا مَعْنَى تُقَلِّبِ الْأَبْصَارِ، وَإِنْ كَانَا مَذْكُورَيْنِ فِي الْخَوْفِ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}.
الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَجْزِيَهُمُ} مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: {يُسِبِّحُ}، أَيْ: يُسَبِّحُونَ لَهُ، وَيَخَافُونَ يَوْمًا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى، هِيَ مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [6/ 160]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [4/ 40]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [2/ 261].
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الزِّيَادَةُ هُنَا كَالزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [10/ 26] وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [50/ 35].
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ حَسَنًا لَمْ يُجْزَوْهُ وَهُوَ الْمُبَاحُ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:
مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنٌ ** وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ